بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مكانة الأخلاق في الدين:
أيها الإخوة الكرام، المنطلق الذي انطلقت منه في موضوع الخطبة، أن أحد الإخوة الكرام، في لقاء قبل يومين، تعجَّب أشدَّ العجب، من إنسان إن تكلم في أمور الدين أخذ بالألباب، أما إذا حاككته، وعاملته، وعاشرته، وجاورته، وجدتَ منه العجب العُجاب، قال لي: ما هذه المفارقة الحادة ؟ وما هذا التناقض المريع بين منطوق هذا الإنسان وسلوكه ؟
هذا السؤال استـفزَّني إلى أن أجعل موضوع هذه الخطبة: ( مكانة الأخلاق في الدين ).
الإيمان هو الخلق الحسن:
أول شيء أبدأ به، كلمة جامعة مانعة، لِعَلَمٍ من كبار أعلام العلماء، هو الإمام ابن القيم رحمه الله، والذي يعدُّ العلماء المعاصرون معظمهم عالةً عليه، قال هذا العالم الجليل: " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان ".
يؤكد هذا القول، جوابُ الصحابي الجليل، جعفر بن أبي طالب يوم كان في الحبشة، والنجاشي يسأله عن حقيقة هذا الدين، فالآن نستمع إلى علَمٍ من أعلام الصحابة يعرِّف الدين فيقول:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
هذه هي الجاهلية الجهلاء، وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾
( سورة الأحزاب: الآية 33 )
فكأن منطوق هذه الآية، يشير إلى أن هناك جاهلية ثانية، أمرّ وأدهى، وهي التي نعيشها اليوم، قال:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.. ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
ماذا تظنون ؟ وماذا تجدون في مضمون هذه الإجابة ؟
أليس كل هذا الذي قاله سيدنا جعفر من مكارم الأخلاق ؟
هذا هو الدين: " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "، لكن من البديهي أن يقصد الإمامُ ابنُ القيم المسلمَ الذي صحت عقيدته، وأدى عباداته على تمامها، ثم بعد ذلك، الشيء الذي يميزه، ويكون صارخاً، ويبعث الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً، هو أخلاقه.
لو أردنا أن نأخذ دليلاً واضحاً قطعياً من السنة.. يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّراً ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيح
ولا يخفى عليكم أن ( إنما ) تفيد القصر والحصر.
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر مفهوم ومضامين بعثته بالقيم الأخلاقية.
الخلق الحسن الميزة العظمى للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم:
الله سبحانه وتعالى أعطى هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صفاتٍ لا تعد ولا تحصى من الكمالات: أعطاه وحياً، أعطاه معجزةً، نفى عنه النسيان:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
( سورة الأعلى: الآية 6 )
أعطاه ما أعطاه، أما حينما أثنى عليه، فبماذا أثنى عليه ؟ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
الدين عبادة للخالق ومعاملة حسنة للخلق:
أيها الإخوة الكرام، السيد المسيح في القرآن الكريم قال:
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
( سورة مريم: الآية 31 )
وكأن هذه الآية تضغط الإسلام في حركتين: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق:
ـ الاتجاه إلى الخالق اتجاه العبادة والتوكل والمحبة والثقة بالله والاعتماد عليه، والالتجاء إليه..
ـ والحركة نحو المخلوق هي الإحسان، أي الانضباط معه، والإحسان إليه.
أيها الإخوة الكرام، إذاً، يكاد يكون الموقع الأول في الدين هو الخلق، بعد صحة العقيدة، وأداء العبادات، ولا يخفى عليكم أن من تعريفات الدين، أنه: ( عقائد وعبادات وأخلاق )، فالأخلاق تأتي بعد العقائد والعبادات.
الأخلاق التي نجبر عليها ليست من الخلق الحسن:
لكن أيها الإخوة الكرام، لكيلا تتداخل العادات والتقاليد مع الأخلاق، لكيلا تتداخل الأنظمة الأرضية مع الأخلاق، يجب أن ننحّيَ جانباً ـ من موضوع الأخلاق ـ كل سلوك نُلزم به مجبرين عليه، أعجبنا أو لم يعجبنا.
كل إنسان يعيش في بلد فيه قوانين، ويوجد أنظمة، فهو ملزم أن يطبق هذه القوانين، موضوعنا لا يتعلق بهذا، الإنسان يطبق خوفاً أو طمعاً، الخلق الحسن ما كان من ذات الإنسان ابتداءً، ما كان مبادرةً منه شخصياً، ما كان سلوكاً لا يرجو منه ثواباً، ولا يخشى منه عقاباً، أعني من البشر، هذه القيم الأخلاقية الرفيعة التي هي نموذج من العلاقات، فيها رقيّ كبير.
أيها الإخوة الكرام، أيضاً، إذا كان هناك روادع أرضية كبيرة جداً، والإنسان يلتزم الروادع، فهذا خارج عن الموضوع.
مثلاً، الإنسان قد لا يسرق، لماذا لا يسرق ؟ لأنه يعيش في مكان، لو أن يده امتدت إلى مال ليس له، عوقب أشد العقاب، فهو يخاف، فلا يسرق، وأحياناً يكون في أوامر الدين أمر، لو أنك عصيته لا أحد على وجه الأرض يسائلك، كغض البصر، لو أنك أطلقت البصر، ليس على الأرض كلها قانون أو نظام يمنعك من إطلاق البصر..
فلذلك حينما ينفرد الدين ببعض الأوامر، فهذا يؤكد الإخلاص في الإنسان.
أوامر الدين توافق الفطرة السليمة:
أيها الإخوة الكرام، لابد من ملاحظة شيء دقيق، هي أن المنهج الذي جاء به وحي السماء ينطبق تمام الانطباق مع فطرة الإنسان، هذا ما دعا المفكرين أن يقولوا:
إن الإسلام دين الفطرة، أي الذي أمرك الله به، نفسك تحبه، والذي نهاك عنه، نفسك تمجُّه:
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾
( سورة الحجرات: الآية 7 )
أيها الإخوة الكرام:
قواعد الفطرة رائعة جداً، هي متطابقة تطابقاً تاماً مع أوامر الله عز وجل، فالأمر سيان بين أن تبحث عن أمر الله عز وجل فترتاح لتطبيقه، وبين أن تبحث عن راحة نفسك، فإذا استجبت إلى نداء الفطرة وجدت هذا النداء ينطبق تماماً مع أمر الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾
( سورة الروم: الآية 30 )
وهذا من أعظم النعم على المسلمين، أن الأمر والنهي الذي ورد في القرآن، وفي السنة النبوية، ينطبق انطباقاً تاماً مع طبيعة النفس، ومع حبها للرحمة، والعدل، والإنصاف، والإحسان، والعفو، والحلم، فما أمرك الله بأمر إلا وجُبلتَ على تطبيقه، وما نهاك عن شيءٍ، إلا وجبلت على تركه، فلذلك الذي يستقيم على أمر الله يشعر براحة تفوق حد الخيال، ما سبب هذه الراحة ؟ أن جبلة النفس متوافقة تماماً مع الشرع العظيم، الذي ورد في القرآن الكريم، وبَيّنه سيد المرسلين.
الذي أريد أن أؤكده لكم أيها الإخوة الكرام، أنك حينما تستقيم على أمر الله تشعر براحة لا توصف، إنه توافق الفطرة مع التشريع، لذلك، الصحابة الكرام كانوا يفرحون بما أنزل إليهم، لأن الذي أنزل إليهم يتوافق مع فطرهم، وأقوى دليل على ذلك أن الله سمى الشيء الذي ترتاح له النفس ( المعروف )، وسمى الذي تمجه النفس ( المنكر )، ما معنى ذلك ؟ معناه أن الفطر السليمة تعرف الحق بفطرتها، وأن الفطر السليمة تنكر الباطل بفطرتها، فسمى الله المعروف معروفاً، لأن كل البشر يعرفونه، وسمى المنكر منكراً، لأن كل البشر يبغضونه.
الانضباط بترك المحظور هو ثمن الجنة:
أيها الإخوة الكرام، ولكن إذا تحدثنا عن نوع من الفطر، عن نوع واحد، كمثال أن الإنسان جبل على حب المرأة، هذه الفطرة، وتلك الغريزة، وهذه الشهوة يمكن أن تتحرك في تطبيقاتها مئة وثمانين درجة، ولكن الشرع الحنيف سمح لك بتسعين درجة، اشتهيت المرأة فتزوجت، لك أن تملأ عينيك من محاسن زوجتك دون أن تشعر بأنك خرجت عن منهج الله، ولك أن تنظر إلى أمك وإلى أختك، وإلى ابنتك، وإلى عمتك، وإلى خالتك، وإلى بنت أخيك، وإلى بنت ابنتك، نظراً مشروعاً بحسب درجة القرب، هذا كله من المجال المسموح به، لكن أن تقيم علاقة آثمة تبدأ بنظرة، وتنتهي بالفاحشة مع امرأة لا تحل لك، فهذا هو الجانب المحظور مما فطرت عليه، وهذا الحظر هو ثمن الجنة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (*) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات: الآية 41،40 )
التكليف الديني وطبع الإنسان متناقضان:
أيها الإخوة الكرام، لابد من تعليق دقيق يبين أن الإنسان معه تكليف، وقد فطر فطرة عظيمة سليمة، ومعه طبع، الطبع أقرب إلى جسمه، والفطرة أقرب إلى نفسه، والتكليف موضوعي، ولحكمة أرادها الله جعل التكليف مناقضاً للطبع:
أنت تحب أن تنام، والتكليف يأمرك أن تستيقظ للصلاة.
أنت تحب أن تطلق البصر، والتكليف يأمرك أن تغض البصر.
أنت تحب أن تكنز المال، والتكليف يأمرك أن تنفق المال في سبيل الله.
أنت تحب أن تخوض في فضائح الناس، والتكليف يأمرك أن تصمت.
علاقة التكليف بالطبع علاقة تناقض، لكن علاقة التكليف بالفطرة علاقة توافق:
أنت حينما تؤدي واجبك، حينما تعطي كل ذي حق حقه، حينما تكون محسناً، حينما تؤثر سعادة الآخرين على راحتك، تشعر براحة نفسية لا توصف.
لذلك هذا المحسن، وهذا المضحّي، وهذا العابد، يشعر بمشاعر لا توصف من الراحة النفسية، فكأنّ التكليف يتوافق مع الفطرة ويتناقض مع الطبع، وتناقضه مع الطبع ثمن الجنة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات: الآية 41،40)
التفريق بين الفطرة والصبغة:
لابد من التفريق بين شيئين، بين الفطرة والصبغة، قال تعالى:
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾
( سورة البقرة: الآية 138)
الصبغة أن تصطبغ بالكمال، من خلال اتصالك برب الأرض والسماوات.
أما الفطرة، فخُلقتَ محباً للعدل، خلقت محباً للرحمة، خلقت محباً للإحسان، فالفطرة أن تحب الكمال، لكن الصبغة أن تكون كاملاً.
كيف نعرف الحسن من القبيح من الأفعال:
أيها الإخوة الكرام، أول شيء أتمناه عليكم أن تركلوا بأقدامكم الأعراف الاجتماعية التي تتناقض مع منهج الله عز وجل، الأعراف الاجتماعية الآن: التفلّت، وأن تظهر المرأة كاسية عارية، وفي معظم البلاد الأعراف الاجتماعية أن تشرب الخمر متى شئت، وفي الجاهلية من الأعراف الاجتماعية وأد البنات، فهذا المؤمن يدقق ويتأمل: أي شيء ألفه في مجتمعه قد يكون مناقضاً للشرع، فعليه أن ينبذه، فما كل عرف نأخذ به، هناك مئات الأعراف ينبغي أن نركلها بأقدامنا، الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، أما إذا استحسن مجتمع ما كهذا المجتمع، أن تبدوَ المرأة كما خلقها الله بكل زينتها وفتنتها.. فهل هذا الذي استحسنه الناس، وتراه في الطرقات، وفي كل مكان، هل هذا يعدُّ عملاً صحيحاً ؟ لا، أبداً، لذلك المؤمن عنده مرجعية، وهي الشرع.
أيها الإخوة الكرام، من دون شك أن الأمة حينما تفقد القيم الأخلاقية تكون قد انتهت:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
***
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمـاً وعويلاً
الله تعالى هو مصدر الالتزام الخلقي:
أيها الإخوة الكرام، هناك من يقول: إن العقل مصدر الالتزام الخلقي، أي الضمير أو المنفعة أو اللذة، وبعضهم يقول: الواجب، والذي أراه، أن مصدر الالتزام الخلقي الحقيقي هو الله عز وجل، فأنت إما أن تخاف من عقابه، وإما أن ترجو ما عنده، هذان المحركان الحقيقيان الفعالان الواقعيان لكل سلوك أخلاقي كامل، ما سوى ذلك كله دعاوى، قد تدعي أنك على خلق إذا كان الإغراء ضعيفاً، لو عرض عليك مبلغ يسير مقابل أن تخالف قناعتك ترفض أشد الرفض، وتقول: معاذ الله، أنا لا أبيع ضميري، فإذا كان المبلغ بمئات الملايين ؟! ربما.. تفكر، وقد تقبل، فمعنى ذلك أن تقول: ضمير، وعقل، وتربية بيتية، وانضباط اجتماعي، ولذة، ومنفعة، هذا كله اركله بقدمك، والشيء الحقيقي الحقيقي الحقيقي، هو أنك حينما تخاف الله، أو حينما ترجو رحمته تنضبط، ولا سبب للانضباط إلا هذا السبب، لماذا ؟ لأنك تجد من يدَّعي يقظة الضمير أحياناً ثم يبيع ضميره، ومن يدعي أنه عاقل، ثم تجده غير عاقل، ما كل ذكي عاقل، الذكي من كان متفوقاً فيما هو فيه، في اختصاصه، أما حينما ينسى ربه، وينسى الآخرة، وينسى الموت، لا يعد هذا الذكي عاقلاً.
ورد في الأثر:
أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطريق مجنوناً، فقال: من هذا ؟ قالوا: هذا مجنون، قال: وما مجنون ؟ أجابوه، فقال عليه الصلاة و السلام:
((المجنون من عصى الله ))
الذي يعصي الله هو المجنون، فلذلك لا نسمي الذكي عاقلاً إلا إذا عرف الله، وعرف سر وجوده، وغاية وجوده
أنواع الأخلاق:
أيها الإخوة الكرام، الأخلاق متنوعة، فمن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بنفسه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بربه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بأسرته، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمجتمعه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمن يحب، و بمن يكره...
أيها الإخوة الكرام، الآن لو دخلنا في بعض التفاصيل:
هناك أخلاق ربانية: الإخلاص لله، الرضا بقضاء الله وقدره، الشكر على نعم الله، نعم الإيجاد والإمداد، والهدى والرشاد، الحياء من الله، رجاء رحمة الله، خشية عقاب الله، التوكل على الله، هذه أخلاق، ولكنها أخلاق تنظم علاقتك بالله عز وجل.
أما في تعاملك مع الناس، فهناك أخلاق إنسانية، الصدق، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والكرم، والتضحية.
ويوجد أخلاق فردية: أن تحاسب نفسك حساباً عسيراً، أن تتواضع، أن يكون سرك كعلانيتك، خلوتك كجلوتك، وظاهرك كباطنك، هذه أخلاق شخصية.
ويوجد أخلاق ربانية، ويوجد أخلاق إنسانية، كما قلت.
ويوجد أخلاق اجتماعية: أن تفي بالوعد، أن تفي بالعهد، وأن تنجز الوعد، وأن تكون صادقاً فيما تقول، وأن ترحم من حولك، وأن تحلم عليهم، وأن تعفوَ عنهم.
ترك الخلق الحسن وبال على الأمة:
أي إذا ألغيت الأخلاق من حياة الإنسان صار الإنسان وحشاً، ألا ترون وحشية الإنسان؟
أيعقل أن يطلق النار على عشرين مليون غنمة في بلد تجارته الأولى بيع الغنم، من أجل الحفاظ على السعر؟
أيعقل أن تتلف المحاصيل من أجل الحفاظ على السعر؟ وشعوب بأكملها تموت من الجوع ؟
الإنسان إذا تخلى عن أخلاقه، وتخلى عن إيمانه، وتخلى عن إيمانه باليوم الآخر، أصبح وحشاً لا كالوحوش، والله الذي لا إله إلا هو، يستحي الإنسان أحياناً أن ينتمي إلى الجنس البشري لكثرة ما ترى من الجرائم..
موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لمَ يقتل، ولا المقتول فيمَ قتل.
يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، إن سكت استباحوه، وإن تكلم قتلوه.
العولمة: مجموعة مبادئ لا أخلاقية:
وهذه العولمة التي جاءتنا من الغرب، ما هي؟ والله سامحوني بهذه الكلمة، والله ما وجدت كلمة جامعة مانعة صادقة في شرح العولمة إلا أن أقول: ( الحيونة )، أن يصبح الإنسان حيواناً، وحشاً، يأكل وحده، يبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني غناه على إفقارهم، يبني حياته على موتهم، يبني أمنه على خوفهم، فالعولمة أيها الإخوة الكرام تعني شيئين اثنين:
ـ المادية والإلحاد.
ـ والإباحية والفساد.
والله لا تزيد على هاتين الكلمتين مهما بدت براقة في بعض الأحيان.
إنكار للوجود الإلهي، وإنكار لكل وحي من السماء، ثم إباحية وفساد إلى أن يموت الإنسان من انغماسه بالشهوات، ولا أدلَّ على ذلك من مؤتمرات السكان التي عقد بعضها في القاهرة، وبعضها في بكين، وبعضها في نيويورك، والتي تبيح الإجهاض الآمن، والتي تقرّ بزواج مثلي بين رجلين، أو بين امرأتين، وتعده زواجاً مشروعاً، والتي تسمح بالعلاقات غير النظامية بين أية امرأة ورجل..
في بلاد الشرق البعيد أو الغرب البعيد لو دخل إنسان، ورأى مع زوجته رجلاً في الفراش لا يستطيع أن ينطق بكلمة، هذه حرية..
إن رأى مع ابنته شاباً في فراشها، وابنته عزباء قبل أن تتزوج، وانفعل، يساق إلى مركز الشرطة ليوقع تعهداً بأنه كان غير حضاري في هذا الانفعال، هذا الشاب الذي جاء إلى فراش ابنته، جاء بدعوة منها.
أيها الإخوة الكرام، أخلاق العولمة مادية وإلحاد، وإباحية وفساد، والمؤتمرات التي تعقد تباعاً، وهذا المؤتمر الذي سوف يعقد، وسوف يعاقب كل الدول التي لا تقبل بتوصياته بعقوبات اقتصادية، هو واحد منها.. يجب أن نغير قانون الأحوال الشخصية ليغدو الزواج عقداً بين شخصين، وليغدو الشاب والشابة أمام خيارات لا تنتهي في ممارسة الجنس خارج نطاق الزوجية، والكلام طويل، وتحدثت عنه كثيراً في خطب كثيرة.
الصفات الأصلية للأخلاق:
أيها الإخوة الكرام، حقيقة خطيرة لابد أن ندركها، أن الأخلاق يظنونها قيماً متبدلة متغيرة، أنا حضرت مؤتمراً قبل أسبوعين عقد في دمشق، وقال أحد المؤتمرين: لو أن إنساناً وجد مع ابنته شاباً، وهو في باريس، الثقافة هناك لا تمنع ذلك، فكما أن الشيء الذي يبدو هنا حراماً وجريمة، يغدو هناك شيئاً طبيعياً كشرب الماء، فلذلك أنت حينما تنطلق من أن القيم الأخلاقية متبدلة وقعت في خطأ كبير جداً ينهي تقدم الأمة.
أيها الإخوة الكرام، من صفات الأخلاق الإسلامية الأصيلة ( الثبات والشمول ):
أي يوجد قيم ثابتة، يوجد ثوابت لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تعدل، ولا تطوَّر، كما أن الإنسان ثابت في خصائصه، وثابت في أجهزته، كذلك هناك قيم ثابتة في حياته، ما لم نؤمن بهذه القيم الثابتة فلن تقوم لمجتمعٍ قائمة.
الأخلاق معللة في الإسلام:
أيها الإخوة الكرام، كما أن العبادات في القرآن الكريم معللة بمصالح الخلق:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
( سورة طه: الآية 14)
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر ﴾
( سورة العنكبوت: الآية 45)
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
( سورة البقرة: الآية 183)
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها ﴾
( سورة التوبة: الآية 103)
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾
( سورة آل عمران: الآية 97)
﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾
( سورة المائدة: الآية 97)
كل العبادات في القرآن الكريم، كما قال الإمام الشافعي، معللة بمصالح الخلق، كذلك القواعد الأخلاقية أيضاً معللة في الإسلام تعليلاً عظيماً:
الله عز وجل أباح لنا الطيبات، وقيم الجمال مباحة لنا:
(( إن الله جميل يحب الجمال ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود
وفق الضوابط الشرعية، وبما أن الإنسان زين له حب الشهوات من النساء، أبيح لنا الزواج، والإسلام واقعي، لأنه يقر أن في الإنسان جزءاً أرضياً، وجزءاً سماوياً، فأعطى الإسلام كل جزء حقه، فأنت بإمكانك أن تتزوج، وأن تسكن في بيت، وأن تنجب أولاداً، وأن يكون لك عمل، وأن تكون مرتاحاً، وأن تكون عارفاً بواجبك نحو ربك بأن تعبده، وأن تطيعه في كل ما أمر، بل إن الإسلام واقعي لدرجة أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
حديث أخرجه الترمذي بإسناد حسن عن أنس بن مالك
لذلك شرع الله التوبة، وما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن نقبل عليه إلا ليقبلنا.
أيها الإخوة الكرام، بل إن الجسم في هذا المنهج العظيم له حق عليك:
(( فإن لجسدك عليك حقاً ))
من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمرو
وحقه: أن تغذيه، وأن تعالجه إذا مرض، وأن تريحه إذا تعب، وأن تحافظ على أجهزتك، هذا من العبادة أيضاً، والله عز وجل أعطانا عقلاً، وأمرنا أن نفكر، الآيات التي تتحدث عن العقل والعلم، والذكر والتفكر تكاد تكون قريباً من ألف آية.
ثم إن الأسرة لها جانب كبير في هذا المنهج العظيم، وللمجتمع كذلك، فلذلك أيها الإخوة الكرام، هذا الذي لا تجد في خلقه سمواً، وهو يدعي أنه متدين، هذا عنده خلل خطير في حياته، اختلَّ ميزانه، فأهمل الأخلاق، وهي ركن أساسي من هذا الدين.
وأخيراً:
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدعوة بالأفعال ( الدعوة الصامتة ):
أيها الإخوة الكرام، قال بعض المفكرين: المؤمن داعية إلى الله، شاء أم أبى، عن وعي أو عن غير وعي، كيف ؟
المؤمن صادق، الصدق وحده دعوة، المؤمن أمين، الأمانة وحدها دعوة، المؤمن عفيف، العفة وحدها دعوة، المؤمن ينجز وعده، وإنجاز الوعد وحده دعوة، المؤمن يحسن إلى جاره، والإحسان إلى الجار دعوة، ما المعنى من ذلك ؟
أنك لن تستطيع أن تقنع الناس بعظمة هذا الدين بعباداتك، هذه عباداتك بينك وبين الله، والناس لا يتأثرون بها، لكنك تستطيع أن تشدَّ الناس إليك، وأن تجعلهم يتطلعون إلى هذا الدين العظيم من معاملاتك، من صبرك، من حكمتك، من أمانتك، من عفتك، من صدقك، من إتقان عملك، من عفوك، من حلمك، فلن تستطيع أن تنطق بكلمة تؤثر فيها فيمن حولك إلا بخلق عظيم، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
أخلاق الأنبياء ينبغي أن نترسمها، وأن نتلمس طريقها، لأنها طريق توسيع دوائر الحق، الحق لا يتوسع بإنسان يصلي فقط، وله كلام قاسٍ مع الآخرين، إنسان يؤدي العبادات، ولكن في الاحتكاك معه مالياً لا ترى له ورعاً ولا ذمةً دقيقةً نقية، فلذلك لما سيدنا عمر رضي الله عنه، قال لواحد من الناس: أتعرف فلاناً ؟ قال: أعرفه، فسأله: هل سافرتَ معه ؟ قال: لا، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، قال: أنت لا تعرفه !
فمعنى ذلك أنه حينما تكون متحلياً بمكارم الأخلاق، فأنت داعية شئت أم أبيت، بل إن دعوتك تسمّى الآن ( الدعوة الصامتة )، وهي والله أبلغ ألف مرة من الدعوة الناطقة، لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، والناس يعرفون الصالح من الطالح، فإن أردت أن تكون داعيةً وهذا أعلى منصب تتسنمه، فعليك بالأخلاق الحسنة:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت: الآية 33)
يمكن أن تكون دعوتك صامتة، ولا تحتاج لا إلى فصاحة، ولا إلى طلاقة، ولا إلى بيان، وذلك بتطبيقك لمنهج الله عز وجل، وتحليك بالكمالات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن، بذلك تكون داعية، وأي داعية.
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مكانة الأخلاق في الدين:
أيها الإخوة الكرام، المنطلق الذي انطلقت منه في موضوع الخطبة، أن أحد الإخوة الكرام، في لقاء قبل يومين، تعجَّب أشدَّ العجب، من إنسان إن تكلم في أمور الدين أخذ بالألباب، أما إذا حاككته، وعاملته، وعاشرته، وجاورته، وجدتَ منه العجب العُجاب، قال لي: ما هذه المفارقة الحادة ؟ وما هذا التناقض المريع بين منطوق هذا الإنسان وسلوكه ؟
هذا السؤال استـفزَّني إلى أن أجعل موضوع هذه الخطبة: ( مكانة الأخلاق في الدين ).
الإيمان هو الخلق الحسن:
أول شيء أبدأ به، كلمة جامعة مانعة، لِعَلَمٍ من كبار أعلام العلماء، هو الإمام ابن القيم رحمه الله، والذي يعدُّ العلماء المعاصرون معظمهم عالةً عليه، قال هذا العالم الجليل: " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان ".
يؤكد هذا القول، جوابُ الصحابي الجليل، جعفر بن أبي طالب يوم كان في الحبشة، والنجاشي يسأله عن حقيقة هذا الدين، فالآن نستمع إلى علَمٍ من أعلام الصحابة يعرِّف الدين فيقول:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
هذه هي الجاهلية الجهلاء، وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾
( سورة الأحزاب: الآية 33 )
فكأن منطوق هذه الآية، يشير إلى أن هناك جاهلية ثانية، أمرّ وأدهى، وهي التي نعيشها اليوم، قال:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.. ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
ماذا تظنون ؟ وماذا تجدون في مضمون هذه الإجابة ؟
أليس كل هذا الذي قاله سيدنا جعفر من مكارم الأخلاق ؟
هذا هو الدين: " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "، لكن من البديهي أن يقصد الإمامُ ابنُ القيم المسلمَ الذي صحت عقيدته، وأدى عباداته على تمامها، ثم بعد ذلك، الشيء الذي يميزه، ويكون صارخاً، ويبعث الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً، هو أخلاقه.
لو أردنا أن نأخذ دليلاً واضحاً قطعياً من السنة.. يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّراً ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيح
ولا يخفى عليكم أن ( إنما ) تفيد القصر والحصر.
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر مفهوم ومضامين بعثته بالقيم الأخلاقية.
الخلق الحسن الميزة العظمى للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم:
الله سبحانه وتعالى أعطى هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صفاتٍ لا تعد ولا تحصى من الكمالات: أعطاه وحياً، أعطاه معجزةً، نفى عنه النسيان:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
( سورة الأعلى: الآية 6 )
أعطاه ما أعطاه، أما حينما أثنى عليه، فبماذا أثنى عليه ؟ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
الدين عبادة للخالق ومعاملة حسنة للخلق:
أيها الإخوة الكرام، السيد المسيح في القرآن الكريم قال:
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
( سورة مريم: الآية 31 )
وكأن هذه الآية تضغط الإسلام في حركتين: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق:
ـ الاتجاه إلى الخالق اتجاه العبادة والتوكل والمحبة والثقة بالله والاعتماد عليه، والالتجاء إليه..
ـ والحركة نحو المخلوق هي الإحسان، أي الانضباط معه، والإحسان إليه.
أيها الإخوة الكرام، إذاً، يكاد يكون الموقع الأول في الدين هو الخلق، بعد صحة العقيدة، وأداء العبادات، ولا يخفى عليكم أن من تعريفات الدين، أنه: ( عقائد وعبادات وأخلاق )، فالأخلاق تأتي بعد العقائد والعبادات.
الأخلاق التي نجبر عليها ليست من الخلق الحسن:
لكن أيها الإخوة الكرام، لكيلا تتداخل العادات والتقاليد مع الأخلاق، لكيلا تتداخل الأنظمة الأرضية مع الأخلاق، يجب أن ننحّيَ جانباً ـ من موضوع الأخلاق ـ كل سلوك نُلزم به مجبرين عليه، أعجبنا أو لم يعجبنا.
كل إنسان يعيش في بلد فيه قوانين، ويوجد أنظمة، فهو ملزم أن يطبق هذه القوانين، موضوعنا لا يتعلق بهذا، الإنسان يطبق خوفاً أو طمعاً، الخلق الحسن ما كان من ذات الإنسان ابتداءً، ما كان مبادرةً منه شخصياً، ما كان سلوكاً لا يرجو منه ثواباً، ولا يخشى منه عقاباً، أعني من البشر، هذه القيم الأخلاقية الرفيعة التي هي نموذج من العلاقات، فيها رقيّ كبير.
أيها الإخوة الكرام، أيضاً، إذا كان هناك روادع أرضية كبيرة جداً، والإنسان يلتزم الروادع، فهذا خارج عن الموضوع.
مثلاً، الإنسان قد لا يسرق، لماذا لا يسرق ؟ لأنه يعيش في مكان، لو أن يده امتدت إلى مال ليس له، عوقب أشد العقاب، فهو يخاف، فلا يسرق، وأحياناً يكون في أوامر الدين أمر، لو أنك عصيته لا أحد على وجه الأرض يسائلك، كغض البصر، لو أنك أطلقت البصر، ليس على الأرض كلها قانون أو نظام يمنعك من إطلاق البصر..
فلذلك حينما ينفرد الدين ببعض الأوامر، فهذا يؤكد الإخلاص في الإنسان.
أوامر الدين توافق الفطرة السليمة:
أيها الإخوة الكرام، لابد من ملاحظة شيء دقيق، هي أن المنهج الذي جاء به وحي السماء ينطبق تمام الانطباق مع فطرة الإنسان، هذا ما دعا المفكرين أن يقولوا:
إن الإسلام دين الفطرة، أي الذي أمرك الله به، نفسك تحبه، والذي نهاك عنه، نفسك تمجُّه:
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾
( سورة الحجرات: الآية 7 )
أيها الإخوة الكرام:
قواعد الفطرة رائعة جداً، هي متطابقة تطابقاً تاماً مع أوامر الله عز وجل، فالأمر سيان بين أن تبحث عن أمر الله عز وجل فترتاح لتطبيقه، وبين أن تبحث عن راحة نفسك، فإذا استجبت إلى نداء الفطرة وجدت هذا النداء ينطبق تماماً مع أمر الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾
( سورة الروم: الآية 30 )
وهذا من أعظم النعم على المسلمين، أن الأمر والنهي الذي ورد في القرآن، وفي السنة النبوية، ينطبق انطباقاً تاماً مع طبيعة النفس، ومع حبها للرحمة، والعدل، والإنصاف، والإحسان، والعفو، والحلم، فما أمرك الله بأمر إلا وجُبلتَ على تطبيقه، وما نهاك عن شيءٍ، إلا وجبلت على تركه، فلذلك الذي يستقيم على أمر الله يشعر براحة تفوق حد الخيال، ما سبب هذه الراحة ؟ أن جبلة النفس متوافقة تماماً مع الشرع العظيم، الذي ورد في القرآن الكريم، وبَيّنه سيد المرسلين.
الذي أريد أن أؤكده لكم أيها الإخوة الكرام، أنك حينما تستقيم على أمر الله تشعر براحة لا توصف، إنه توافق الفطرة مع التشريع، لذلك، الصحابة الكرام كانوا يفرحون بما أنزل إليهم، لأن الذي أنزل إليهم يتوافق مع فطرهم، وأقوى دليل على ذلك أن الله سمى الشيء الذي ترتاح له النفس ( المعروف )، وسمى الذي تمجه النفس ( المنكر )، ما معنى ذلك ؟ معناه أن الفطر السليمة تعرف الحق بفطرتها، وأن الفطر السليمة تنكر الباطل بفطرتها، فسمى الله المعروف معروفاً، لأن كل البشر يعرفونه، وسمى المنكر منكراً، لأن كل البشر يبغضونه.
الانضباط بترك المحظور هو ثمن الجنة:
أيها الإخوة الكرام، ولكن إذا تحدثنا عن نوع من الفطر، عن نوع واحد، كمثال أن الإنسان جبل على حب المرأة، هذه الفطرة، وتلك الغريزة، وهذه الشهوة يمكن أن تتحرك في تطبيقاتها مئة وثمانين درجة، ولكن الشرع الحنيف سمح لك بتسعين درجة، اشتهيت المرأة فتزوجت، لك أن تملأ عينيك من محاسن زوجتك دون أن تشعر بأنك خرجت عن منهج الله، ولك أن تنظر إلى أمك وإلى أختك، وإلى ابنتك، وإلى عمتك، وإلى خالتك، وإلى بنت أخيك، وإلى بنت ابنتك، نظراً مشروعاً بحسب درجة القرب، هذا كله من المجال المسموح به، لكن أن تقيم علاقة آثمة تبدأ بنظرة، وتنتهي بالفاحشة مع امرأة لا تحل لك، فهذا هو الجانب المحظور مما فطرت عليه، وهذا الحظر هو ثمن الجنة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (*) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات: الآية 41،40 )
التكليف الديني وطبع الإنسان متناقضان:
أيها الإخوة الكرام، لابد من تعليق دقيق يبين أن الإنسان معه تكليف، وقد فطر فطرة عظيمة سليمة، ومعه طبع، الطبع أقرب إلى جسمه، والفطرة أقرب إلى نفسه، والتكليف موضوعي، ولحكمة أرادها الله جعل التكليف مناقضاً للطبع:
أنت تحب أن تنام، والتكليف يأمرك أن تستيقظ للصلاة.
أنت تحب أن تطلق البصر، والتكليف يأمرك أن تغض البصر.
أنت تحب أن تكنز المال، والتكليف يأمرك أن تنفق المال في سبيل الله.
أنت تحب أن تخوض في فضائح الناس، والتكليف يأمرك أن تصمت.
علاقة التكليف بالطبع علاقة تناقض، لكن علاقة التكليف بالفطرة علاقة توافق:
أنت حينما تؤدي واجبك، حينما تعطي كل ذي حق حقه، حينما تكون محسناً، حينما تؤثر سعادة الآخرين على راحتك، تشعر براحة نفسية لا توصف.
لذلك هذا المحسن، وهذا المضحّي، وهذا العابد، يشعر بمشاعر لا توصف من الراحة النفسية، فكأنّ التكليف يتوافق مع الفطرة ويتناقض مع الطبع، وتناقضه مع الطبع ثمن الجنة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات: الآية 41،40)
التفريق بين الفطرة والصبغة:
لابد من التفريق بين شيئين، بين الفطرة والصبغة، قال تعالى:
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾
( سورة البقرة: الآية 138)
الصبغة أن تصطبغ بالكمال، من خلال اتصالك برب الأرض والسماوات.
أما الفطرة، فخُلقتَ محباً للعدل، خلقت محباً للرحمة، خلقت محباً للإحسان، فالفطرة أن تحب الكمال، لكن الصبغة أن تكون كاملاً.
كيف نعرف الحسن من القبيح من الأفعال:
أيها الإخوة الكرام، أول شيء أتمناه عليكم أن تركلوا بأقدامكم الأعراف الاجتماعية التي تتناقض مع منهج الله عز وجل، الأعراف الاجتماعية الآن: التفلّت، وأن تظهر المرأة كاسية عارية، وفي معظم البلاد الأعراف الاجتماعية أن تشرب الخمر متى شئت، وفي الجاهلية من الأعراف الاجتماعية وأد البنات، فهذا المؤمن يدقق ويتأمل: أي شيء ألفه في مجتمعه قد يكون مناقضاً للشرع، فعليه أن ينبذه، فما كل عرف نأخذ به، هناك مئات الأعراف ينبغي أن نركلها بأقدامنا، الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، أما إذا استحسن مجتمع ما كهذا المجتمع، أن تبدوَ المرأة كما خلقها الله بكل زينتها وفتنتها.. فهل هذا الذي استحسنه الناس، وتراه في الطرقات، وفي كل مكان، هل هذا يعدُّ عملاً صحيحاً ؟ لا، أبداً، لذلك المؤمن عنده مرجعية، وهي الشرع.
أيها الإخوة الكرام، من دون شك أن الأمة حينما تفقد القيم الأخلاقية تكون قد انتهت:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
***
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمـاً وعويلاً
الله تعالى هو مصدر الالتزام الخلقي:
أيها الإخوة الكرام، هناك من يقول: إن العقل مصدر الالتزام الخلقي، أي الضمير أو المنفعة أو اللذة، وبعضهم يقول: الواجب، والذي أراه، أن مصدر الالتزام الخلقي الحقيقي هو الله عز وجل، فأنت إما أن تخاف من عقابه، وإما أن ترجو ما عنده، هذان المحركان الحقيقيان الفعالان الواقعيان لكل سلوك أخلاقي كامل، ما سوى ذلك كله دعاوى، قد تدعي أنك على خلق إذا كان الإغراء ضعيفاً، لو عرض عليك مبلغ يسير مقابل أن تخالف قناعتك ترفض أشد الرفض، وتقول: معاذ الله، أنا لا أبيع ضميري، فإذا كان المبلغ بمئات الملايين ؟! ربما.. تفكر، وقد تقبل، فمعنى ذلك أن تقول: ضمير، وعقل، وتربية بيتية، وانضباط اجتماعي، ولذة، ومنفعة، هذا كله اركله بقدمك، والشيء الحقيقي الحقيقي الحقيقي، هو أنك حينما تخاف الله، أو حينما ترجو رحمته تنضبط، ولا سبب للانضباط إلا هذا السبب، لماذا ؟ لأنك تجد من يدَّعي يقظة الضمير أحياناً ثم يبيع ضميره، ومن يدعي أنه عاقل، ثم تجده غير عاقل، ما كل ذكي عاقل، الذكي من كان متفوقاً فيما هو فيه، في اختصاصه، أما حينما ينسى ربه، وينسى الآخرة، وينسى الموت، لا يعد هذا الذكي عاقلاً.
ورد في الأثر:
أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطريق مجنوناً، فقال: من هذا ؟ قالوا: هذا مجنون، قال: وما مجنون ؟ أجابوه، فقال عليه الصلاة و السلام:
((المجنون من عصى الله ))
الذي يعصي الله هو المجنون، فلذلك لا نسمي الذكي عاقلاً إلا إذا عرف الله، وعرف سر وجوده، وغاية وجوده
أنواع الأخلاق:
أيها الإخوة الكرام، الأخلاق متنوعة، فمن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بنفسه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بربه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بأسرته، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمجتمعه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمن يحب، و بمن يكره...
أيها الإخوة الكرام، الآن لو دخلنا في بعض التفاصيل:
هناك أخلاق ربانية: الإخلاص لله، الرضا بقضاء الله وقدره، الشكر على نعم الله، نعم الإيجاد والإمداد، والهدى والرشاد، الحياء من الله، رجاء رحمة الله، خشية عقاب الله، التوكل على الله، هذه أخلاق، ولكنها أخلاق تنظم علاقتك بالله عز وجل.
أما في تعاملك مع الناس، فهناك أخلاق إنسانية، الصدق، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والكرم، والتضحية.
ويوجد أخلاق فردية: أن تحاسب نفسك حساباً عسيراً، أن تتواضع، أن يكون سرك كعلانيتك، خلوتك كجلوتك، وظاهرك كباطنك، هذه أخلاق شخصية.
ويوجد أخلاق ربانية، ويوجد أخلاق إنسانية، كما قلت.
ويوجد أخلاق اجتماعية: أن تفي بالوعد، أن تفي بالعهد، وأن تنجز الوعد، وأن تكون صادقاً فيما تقول، وأن ترحم من حولك، وأن تحلم عليهم، وأن تعفوَ عنهم.
ترك الخلق الحسن وبال على الأمة:
أي إذا ألغيت الأخلاق من حياة الإنسان صار الإنسان وحشاً، ألا ترون وحشية الإنسان؟
أيعقل أن يطلق النار على عشرين مليون غنمة في بلد تجارته الأولى بيع الغنم، من أجل الحفاظ على السعر؟
أيعقل أن تتلف المحاصيل من أجل الحفاظ على السعر؟ وشعوب بأكملها تموت من الجوع ؟
الإنسان إذا تخلى عن أخلاقه، وتخلى عن إيمانه، وتخلى عن إيمانه باليوم الآخر، أصبح وحشاً لا كالوحوش، والله الذي لا إله إلا هو، يستحي الإنسان أحياناً أن ينتمي إلى الجنس البشري لكثرة ما ترى من الجرائم..
موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لمَ يقتل، ولا المقتول فيمَ قتل.
يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، إن سكت استباحوه، وإن تكلم قتلوه.
العولمة: مجموعة مبادئ لا أخلاقية:
وهذه العولمة التي جاءتنا من الغرب، ما هي؟ والله سامحوني بهذه الكلمة، والله ما وجدت كلمة جامعة مانعة صادقة في شرح العولمة إلا أن أقول: ( الحيونة )، أن يصبح الإنسان حيواناً، وحشاً، يأكل وحده، يبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني غناه على إفقارهم، يبني حياته على موتهم، يبني أمنه على خوفهم، فالعولمة أيها الإخوة الكرام تعني شيئين اثنين:
ـ المادية والإلحاد.
ـ والإباحية والفساد.
والله لا تزيد على هاتين الكلمتين مهما بدت براقة في بعض الأحيان.
إنكار للوجود الإلهي، وإنكار لكل وحي من السماء، ثم إباحية وفساد إلى أن يموت الإنسان من انغماسه بالشهوات، ولا أدلَّ على ذلك من مؤتمرات السكان التي عقد بعضها في القاهرة، وبعضها في بكين، وبعضها في نيويورك، والتي تبيح الإجهاض الآمن، والتي تقرّ بزواج مثلي بين رجلين، أو بين امرأتين، وتعده زواجاً مشروعاً، والتي تسمح بالعلاقات غير النظامية بين أية امرأة ورجل..
في بلاد الشرق البعيد أو الغرب البعيد لو دخل إنسان، ورأى مع زوجته رجلاً في الفراش لا يستطيع أن ينطق بكلمة، هذه حرية..
إن رأى مع ابنته شاباً في فراشها، وابنته عزباء قبل أن تتزوج، وانفعل، يساق إلى مركز الشرطة ليوقع تعهداً بأنه كان غير حضاري في هذا الانفعال، هذا الشاب الذي جاء إلى فراش ابنته، جاء بدعوة منها.
أيها الإخوة الكرام، أخلاق العولمة مادية وإلحاد، وإباحية وفساد، والمؤتمرات التي تعقد تباعاً، وهذا المؤتمر الذي سوف يعقد، وسوف يعاقب كل الدول التي لا تقبل بتوصياته بعقوبات اقتصادية، هو واحد منها.. يجب أن نغير قانون الأحوال الشخصية ليغدو الزواج عقداً بين شخصين، وليغدو الشاب والشابة أمام خيارات لا تنتهي في ممارسة الجنس خارج نطاق الزوجية، والكلام طويل، وتحدثت عنه كثيراً في خطب كثيرة.
الصفات الأصلية للأخلاق:
أيها الإخوة الكرام، حقيقة خطيرة لابد أن ندركها، أن الأخلاق يظنونها قيماً متبدلة متغيرة، أنا حضرت مؤتمراً قبل أسبوعين عقد في دمشق، وقال أحد المؤتمرين: لو أن إنساناً وجد مع ابنته شاباً، وهو في باريس، الثقافة هناك لا تمنع ذلك، فكما أن الشيء الذي يبدو هنا حراماً وجريمة، يغدو هناك شيئاً طبيعياً كشرب الماء، فلذلك أنت حينما تنطلق من أن القيم الأخلاقية متبدلة وقعت في خطأ كبير جداً ينهي تقدم الأمة.
أيها الإخوة الكرام، من صفات الأخلاق الإسلامية الأصيلة ( الثبات والشمول ):
أي يوجد قيم ثابتة، يوجد ثوابت لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تعدل، ولا تطوَّر، كما أن الإنسان ثابت في خصائصه، وثابت في أجهزته، كذلك هناك قيم ثابتة في حياته، ما لم نؤمن بهذه القيم الثابتة فلن تقوم لمجتمعٍ قائمة.
الأخلاق معللة في الإسلام:
أيها الإخوة الكرام، كما أن العبادات في القرآن الكريم معللة بمصالح الخلق:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
( سورة طه: الآية 14)
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر ﴾
( سورة العنكبوت: الآية 45)
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
( سورة البقرة: الآية 183)
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها ﴾
( سورة التوبة: الآية 103)
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾
( سورة آل عمران: الآية 97)
﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾
( سورة المائدة: الآية 97)
كل العبادات في القرآن الكريم، كما قال الإمام الشافعي، معللة بمصالح الخلق، كذلك القواعد الأخلاقية أيضاً معللة في الإسلام تعليلاً عظيماً:
الله عز وجل أباح لنا الطيبات، وقيم الجمال مباحة لنا:
(( إن الله جميل يحب الجمال ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود
وفق الضوابط الشرعية، وبما أن الإنسان زين له حب الشهوات من النساء، أبيح لنا الزواج، والإسلام واقعي، لأنه يقر أن في الإنسان جزءاً أرضياً، وجزءاً سماوياً، فأعطى الإسلام كل جزء حقه، فأنت بإمكانك أن تتزوج، وأن تسكن في بيت، وأن تنجب أولاداً، وأن يكون لك عمل، وأن تكون مرتاحاً، وأن تكون عارفاً بواجبك نحو ربك بأن تعبده، وأن تطيعه في كل ما أمر، بل إن الإسلام واقعي لدرجة أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
حديث أخرجه الترمذي بإسناد حسن عن أنس بن مالك
لذلك شرع الله التوبة، وما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن نقبل عليه إلا ليقبلنا.
أيها الإخوة الكرام، بل إن الجسم في هذا المنهج العظيم له حق عليك:
(( فإن لجسدك عليك حقاً ))
من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمرو
وحقه: أن تغذيه، وأن تعالجه إذا مرض، وأن تريحه إذا تعب، وأن تحافظ على أجهزتك، هذا من العبادة أيضاً، والله عز وجل أعطانا عقلاً، وأمرنا أن نفكر، الآيات التي تتحدث عن العقل والعلم، والذكر والتفكر تكاد تكون قريباً من ألف آية.
ثم إن الأسرة لها جانب كبير في هذا المنهج العظيم، وللمجتمع كذلك، فلذلك أيها الإخوة الكرام، هذا الذي لا تجد في خلقه سمواً، وهو يدعي أنه متدين، هذا عنده خلل خطير في حياته، اختلَّ ميزانه، فأهمل الأخلاق، وهي ركن أساسي من هذا الدين.
وأخيراً:
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدعوة بالأفعال ( الدعوة الصامتة ):
أيها الإخوة الكرام، قال بعض المفكرين: المؤمن داعية إلى الله، شاء أم أبى، عن وعي أو عن غير وعي، كيف ؟
المؤمن صادق، الصدق وحده دعوة، المؤمن أمين، الأمانة وحدها دعوة، المؤمن عفيف، العفة وحدها دعوة، المؤمن ينجز وعده، وإنجاز الوعد وحده دعوة، المؤمن يحسن إلى جاره، والإحسان إلى الجار دعوة، ما المعنى من ذلك ؟
أنك لن تستطيع أن تقنع الناس بعظمة هذا الدين بعباداتك، هذه عباداتك بينك وبين الله، والناس لا يتأثرون بها، لكنك تستطيع أن تشدَّ الناس إليك، وأن تجعلهم يتطلعون إلى هذا الدين العظيم من معاملاتك، من صبرك، من حكمتك، من أمانتك، من عفتك، من صدقك، من إتقان عملك، من عفوك، من حلمك، فلن تستطيع أن تنطق بكلمة تؤثر فيها فيمن حولك إلا بخلق عظيم، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
أخلاق الأنبياء ينبغي أن نترسمها، وأن نتلمس طريقها، لأنها طريق توسيع دوائر الحق، الحق لا يتوسع بإنسان يصلي فقط، وله كلام قاسٍ مع الآخرين، إنسان يؤدي العبادات، ولكن في الاحتكاك معه مالياً لا ترى له ورعاً ولا ذمةً دقيقةً نقية، فلذلك لما سيدنا عمر رضي الله عنه، قال لواحد من الناس: أتعرف فلاناً ؟ قال: أعرفه، فسأله: هل سافرتَ معه ؟ قال: لا، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، قال: أنت لا تعرفه !
فمعنى ذلك أنه حينما تكون متحلياً بمكارم الأخلاق، فأنت داعية شئت أم أبيت، بل إن دعوتك تسمّى الآن ( الدعوة الصامتة )، وهي والله أبلغ ألف مرة من الدعوة الناطقة، لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، والناس يعرفون الصالح من الطالح، فإن أردت أن تكون داعيةً وهذا أعلى منصب تتسنمه، فعليك بالأخلاق الحسنة:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت: الآية 33)
يمكن أن تكون دعوتك صامتة، ولا تحتاج لا إلى فصاحة، ولا إلى طلاقة، ولا إلى بيان، وذلك بتطبيقك لمنهج الله عز وجل، وتحليك بالكمالات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن، بذلك تكون داعية، وأي داعية.
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين